الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: قوله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}أصله: عن ما، فأدغمت النون في الميم؛ لأن الميم تشاركها في الغنة، كذا قال الزجاج، وحذفت الألف؛ ليتميز الخبر عن الاستفهام، وكذلك فيم وممّ ونحو ذلك، والمعنى: عن أيّ شيء يسأل بعضهم بعضاً.قرأ الجمهور: {عمّ} بحذف الألف لما ذكرنا، وقرأ أبيّ، وابن مسعود، وعكرمة، وعيسى بإثباتها، ومنه قول الشاعر:ولكنه قليل لا يجوز إلاّ للضرورة، وقرأ البزي بهاء السكت عوضاً عن الألف، وروى ذلك عن ابن كثير.قال الزجاج: اللفظ لفظ استفهام، والمعنى: تفخيم القصة كما تقول: أيّ شيء تريد: إذا عظمت شأنه.قال الواحدي: قال المفسرون: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بتوحيد الله، والبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون: ماذا جاء به محمد، وما الذي أتى به؟ فأنزل الله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} قال الفرّاء: التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل، وقد يستمعل أيضاً في أن يتحدّثوا به، وإن لم يكن بينهم سؤال.قال الله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الطور: 25] {قال قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ} [الصافات: 51] الآية، وهذا يدل على أنه التحدّث، ولفظ (ما) موضوع لطلب حقائق الأشياء، وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولاً، فجعل الشيء العظيم الذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول، ولهذا جاء سبحانه بلفظ (ما).ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا، وبينه فقال: {عَنِ النبإ العظيم} فأورده سبحانه أوّلاً على طريقة الاستفهام مبهماً؛ لتتوجه إليه أذهانهم، وتلتفت إليه أفهامهم، ثم بينه بما يفيد تعظيمه، وتفخيمه كأنه قيل: عن أيّ شيء يتساءلون هل أخبركم به؟ ثم قيل بطريق الجواب: {عَنِ النبإ العظيم} على منهاج قوله: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] فالجارّ والمجرور متعلق بالفعل الذي قبله، أو بما يدلّ عليه.قال ابن عطية: قال أكثر النحاة: عن النبأ العظيم متعلق بـ: {يتساءلون} الظاهر، كأنه قال: لم يتساءلون عن النبأ العظيم، وقيل: ليس بمتعلق بالفعل المذكور؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام، فيكون التقدير أعن النبأ العظيم؟ فلزم أن يتعلق بـ: {يتساءلون} آخر مقدّر، وإنما كان ذلك النبأ، أي: القرآن عظيماً؛ لأنه ينبئ عن التوحيد، وتصديق الرسول، ووقوع البعث والنشور.قال الضحاك: يعني: نبأ يوم القيامة، وكذا قال قتادة.وقد استدلّ على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله: {الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} فإنهم اختلفوا في القرآن، فجعله بعضهم سحراً، وبعضهم شعراً، وبعضهم كهانة، وبعضهم قال: هو أساطير الأوّلين.وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره.ويمكن أن يقال: إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة، فصدّق به المؤمنون، وكذب به الكافرون، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل، ومما يدلّ على أنه القرآن قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67، 68] ومما يدلّ على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة.وأيضاً، فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث؛ فأثبت النصارى المعاد الروحاني، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ (جنعيذا) بجيم مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم عين مكسورة مهملة، ثم تحتية ساكنة، ثم ذال معجمة بعدها ألف.وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين، والعذاب للعاصين، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله: {إن هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نحن بمبعوثين} [المؤمنون: 37] وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه بل شاكة فيه، كما حكى الله عنهم بقوله: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] وما حكاه عنهم بقوله: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة.وقد قيل: إن الضمير في قوله: {يتساءلون} يرجع إلى المؤمنين والكفار؛ لأنهم جميعاً كانوا يتساءلون عنه، فأما المسلم، فيزداد يقيناً واستعداداً، وبصيرة في دينه، وأما الكافر فاستهزاء وسخرية.قال الرازي: ويحتمل أنهم يسألون الرسول، ويقولون: ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة، والموصول في محل جرّ صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيماً فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه.{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ردع لهم وزجر، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم: الكفار، وبه يندفع ما قيل: إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط، وقيل: كلاَّ بمعنى حقاً، ثم كرّر الردع والزجر فقال: {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد.قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة.وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن دينار، وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب.وقرأ الضحاك الأوّل بالفوقية والثاني بالتحتية.قال الضحاك أيضاً.{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} يعني: الكافرين عاقبة تكذيبهم {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} يعني: المؤمنين عاقبة تصديقهم، وقيل: بالعكس، وقيل: هو وعيد بعده وعيد، وقيل المعنى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} عند النزع {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} عند البعث.ثم ذكر سبحانه بديع صنعه، وعظيم قدرته؛ ليعرفوا توحيده، ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً} أي: قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث، والمهاد الوطاء، والفراش، كما في قوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] قرأ الجمهور: {مهاداً} وقرأ مجاهد، وعيسى، وبعض الكوفيين: {مهداً} والمعنى: أنها كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه.والأوتاد جمع وتد: أي: جعلنا الجبال أوتاداً للأرض؛ لتسكن ولا تتحرّك، كما يرس الخيام بالأوتاد، وفي هذا دليل على أن التاؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث، لا عن القرآن، ولا عن نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قيل؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث {وخلقناكم أزواجا} معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه، فهو في قوّة أما خلقناكم، والمراد بالأزواج هنا الأصناف أي: الذكور والإناث، وقيل: المراد بالأزواج الألوان، وقيل: يدخل في هذا كلّ زوج من المخلوقات عن قبيح وحسن وطويل وقصير: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: راحة لأبدانكم.قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه: أي: جعلنا نومكم راحة لكم.قال ابن الأنباري: جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم؛ لأن أصل السبت القطع، وقيل: أصله التمدّد، يقال سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، ورجل مسبوت الخلق: أي: ممدوده، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدّد، فسمي النوم سباتاً، وقيل المعنى: وجعلنا نومكم موتاً، والنوم أحد الموتتين، فالمسبوت يشبه الميت، ولكنه لم تفارقه الروح، ومنه قول الشاعر: ومن هذا قوله: {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} [الزمر: 42] الآية، وقوله: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} أي: نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس.وقال سعيد بن جبير والسديّ: أي سكناً لكم، وقيل: المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه، وهو بعيد؛ لأن الجعل وقع على الليل، لا على ما يستتر به النائم عند نومه {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} أي: وقت معاش، والمعاش العيش، وكلّ شيء يعاش به فهو معاش، والمعنى: أن الله جعل لهم النهار مضيئاً؛ ليسعوا فيما يقوم به معاشهم، وما قسمه الله لهم من الرزق {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء، ولهذا وصفها بالشدّة، وغلظ كلّ واحدة منها مسيرة خمسمائة عام، كما ورد ذلك.{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} المراد به: الشمس، وجعل هنا بمعنى: خلق، وهكذا قوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} وما بعده؛ لأن هذه الأفعال قد تعدّت إلى مفعولين، فلابد من تضمينها معنى فعل يتعدّى إليهما كالخلق أو التصيير ونحو ذلك.وقيل: إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع، والمراد به الإنشاء التكويني الذي بمعنى التقدير والتسوية.قال الزجاج: الوهاج: الوقاد، وهو الذي وهج، يقال وهجت النار تهيج وهجاً ووهجاناً.قال مقاتل: جعل فيه نوراً وحرّاً، والوهج يجمع النور والحرارة.{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً} المعصرات هي: السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها، كذا قال سفيان والربيع، وأبو العالية، والضحاك.وقال مجاهد، ومقاتل، وقتادة، والكلبي: هي الرياح، والرياح تسمى معصرات، يقال أعصرت الريح تعصر إعصاراً: إذا أثارت العجاج.قال الأزهري: هي الرياح ذوات الأعاصير، وذلك أن الرياح تستدرّ المطر.وقال الفرّاء: المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر.قال النحاس: وهذه الأقوال صحاح، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر.ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولاً واحدًّا، ويكون المعنى: وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجاجاً.قال في الصحاح والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر، وعصر القوم أي: مطروا.قال المبرد: يقال سحاب معصر، أي: ممسك للماء يعتصر منه شيء بعد شيء.وقال أبيّ بن كعب، والحسن، وابن جبير، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان: المعصرات: السماوات.والثجاج: المنصب بكثرة على جهة التتابع، يقال ثجّ الماء أي: سال بكثرة، وثجه أي: أساله.قال الزجاج: الثجاج: الصباب.قال ابن زيد: ثجاجاً كثيراً.{لِّنُخْرِجَ بِهِ حبًّا وَنَبَاتاً} أي: لنخرج بذلك الماء حبًّا يقتات، كالحنطة والشعير ونحوهما، والنبات ما تأكله الدوّاب من الحشيش وسائر النبات {وجنات أَلْفَافاً} أي: بساتين ملتفّ بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد للألفاف: كالأوزاع والأخياف.وقيل: واحدها لف بكسر اللام وضمها، ذكره الكسائي.وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشراف، روي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء، ونبت لف، والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف، وقيل: هو جمع ملتفة بحذف الزوائد.قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم.{إِنَّ يوم الفصل كَانَ ميقاتا} أي: وقتاً، ومجمعاً، وميعاداً للأوّلين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب، وسمي يوم الفصل لأن الله يفصل فيه بين خلقه، وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث، وقيل: معنى {ميقاتاً}: أنه حدّ توقت به الدنيا وتنتهي عنده، وقيل: حدّ للخلائق ينتهون إليه {يوم يُنفَخُ في الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} أي: يوم ينفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث {فَتَأْتُونَ} أي: إلى موضع العرض {أَفْوَاجاً} أي: زمراً زمراً، وجماعات جماعات، وهي جمع فوج، وانتصاب {يوم يُنفَخُ} على أنه بدل من يوم الفصل، أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله، وإن كان الفصل متأخراً عن النفخ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني، وانتصاب {أفواجاً} على الحال من فاعل تأتون، والفاء في {فتأتون} فصيحة تدلّ على محذوف أي: فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجاً.{وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا} معطوف على ينفخ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي: فتحت لنزول الملائكة {فَكَانَتْ أبوابا} كما في قوله: {وَيوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] وقيل معنى. قطعت فصارت قطعاً كالأبواب، وقيل: أبوابها طرقها، وقيل: تنحل وتتناثر حتى تصير فيها أبواب، وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: باب لرزقه، وباب لعمله، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب، وظاهر قوله: {فَكَانَتْ أبوابا} أنها صارت كلها أبواباً، وليس المراد ذلك، بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة.قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي. مخففاً.وقرأ الباقون بالتشديد {وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} أي: سيرت عن أماكنها في الهواء، وقلعت عن مقارّها، فكانت هباء منبثاً يظنّ الناظر أنها سراب، والمعنى: أن الجبال صارت كلا شيء، كما أن السراب يظنّ الناظر أنه ماء، وليس بماء، وقيل معنى سيرت: أنها نسفت من أصولها، ومثل هذا قوله: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة، ولكن الجمع بينها أن نقول: أوّل أحوالها الاندكاك، وهو قوله: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14] وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وثالث أحوالها أن تصير كالهباء، وهو قوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} [الواقعة: 5، 6] ورابع أحوالها: أن تنسف وتحملها الرياح، كما في قوله: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].وخامس أحوالها أن تصير سراباً أي: لا شيء، كما في هذه الآية.ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} قال الأزهري: المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدوّ.قال المبرد: مرصاداً يرصدون به أي: هو معدّ لهم يرصد به خزنتها الكفار.قال الحسن: إن على الباب رصداً لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حبس.وقال مقاتل: محبساً، وقيل: طريقاً وممرّاً.قال في الصحاح: الراصد للشيء الراقب له يقال رصده يرصده رصداً، والرصد الترقب، والمرصد موضع الرصد.قال الأصمعي: رصدته أرصده ترقبته، ومعنى الآية: أن جهنم كانت في حكم الله، وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار؛ ليعذبوهم فيها، أو هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار، كما يتطلع الرصد لمن يمرّ به ويأتي إليهم، والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.ثم ذكر من هي مرصد له فقال: {للطاغين مَئَاباً} أي: مرجعاً يرجعون إليه، والمآب المرجع، يقال آب يئوب: إذا رجع، والطاغي هو من طغى بالكفر، و{للطاغين} نعت لـ: {مرصاداً} متعلق بمحذوف، و{مآباً} بدل من {مرصاداً}، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على الحال من {مآباً} قدّمت عليه لكونه نكرة، وانتصاب {لابثين فِيهَا} على الحال المقدّرة من الضمير المستكنّ في الطاغين.قرأ الجمهور {لابثين} بالألف.وقرأ حمزة، والكسائي {لبثين} بدون ألف، وانتصاب {أَحْقَاباً} على الظرفية أي: ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، وكلما مضى حقب جاء حقب، وهي جمع حقب بضمتين، وهو الدهر، والأحقاب الدهور، والحقب بضم الحاء، وسكون القاف.قيل: هو ثمانون سنة، وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة، السنة ثلثمائة وستون يوماً، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا.وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت، فيكون لهم نوع آخر من العذاب.وقال السديّ: الحقب سبعون سنة.وقال بشير بن كعب: ثلثمائة سنة.وقال ابن عمر أربعون سنة، وقيل: ثلاثون ألف سنة.قال الحسن: الأحقاب لا يدري أحد كم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة.وقيل: الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار، والأولى ما ذكرناه أوّلاً من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد.وحكى الواحدي: عن الحسن أنه قال: والله ما هي إلاّ أنه إذا مضى حقب دخل آخر، ثم آخر، ثم كذلك إلى الأبد.وجملة: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم، أو في الأحقاب برداً ينفعهم من حرّها، ولا شراباً ينفعهم من عطشها {إلاّ حميماً}، وهو الماء الحارّ، و{غساقاً} وهو صديد أهل النار، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين، أو صفة للأحقاب، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم، ويجوز أن يكون متصلاً من قوله: {شَرَاباً} وقال مجاهد، والسديّ وأبو عبيدة، والكسائي، والفضل بن خالد، وأبو معاذ النحوي: البرد المذكور في هذه الآية هو: النوم، ومنه قول الكندي: أي: النوم.قال الزجاج: أي: لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم فجعل البرد يشمل هذه الأمور.وقال الحسن، وعطاء، وابن زيد: برداً أي: روحاً وراحة.قرأ الجمهور {غساقاً} بالتخفيف.وقرأ حمزة، والكسائي بتشديد السين، وقد تقدّم تفسيره، وتفسير الحميم، والخلاف فيهما في سورة ص.{جَزَاء وفاقا} أي: موافقاً لأعمالهم، و{جزاء} منتصب على المصدر، و{وفاقاً} نعت له.قال الفرّاء، والأخفش: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، قال الزجاج: جوزوا جزاء وافق أعمالهم.قال الفرّاء: الوفاق جمع الوفق، والوفق والموافق واحد.قال مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.وقال الحسن، وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوؤهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أي: لا يرجون ثواب حساب.قال الزجاج: كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيرجون حسابهم، والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً} أي: كذبوا بالآيات القرآنية، أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيباً شديداً، وفعال من مصادر التفعل.قال الفرّاء: هي لغة فصيحة يمانية، تقول كذبت كذاباً، وخرقت القميص خراقاً.قال في الصحاح: وكذبوا بآياتنا كذاباً هو أحد مصادر المشدّد؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم، وعلى فعال مثل كذاب، وعلى تفعلة مثل توصية، وعلى مفعل مثل: {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] قرأ الجمهور {كذاباً} بالتشديد.وقرأ على بن أبي طالب بالتخفيف.وقال أبو على الفارسي التخفيف والتشديد جميعاً مصدر المكاذبة.وقرأ ابن عمر: {كذاباً} بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب.قال أبو حاتم ونصبه على الحال.قال الزمخشري: وقد يكون يعني: على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب، تقول: رجل كذاب كقولك حسان وبخال.{وَكُلَّ شيء أحصيناه كتابا} قرأ الجمهور: {وكل} بالنصب على الاشتغال أي: وأحصينا كل شيء أحصيناه.وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء، وما بعده خبره، وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب، وانتصاب {كتاباً} على المصدرية لأحصيناه؛ لأن أحصيناه في معنى كتبناه، وقيل: هو منتصب على الحال أي: مكتوباً.قيل: المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة، وقيل: أراد ما كتبه الحفظة على العباد من أعمالهم، وقيل: المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان، والأوّل أولى لقوله: {وَكُلَّ شيء أحصيناه في أمام مُّبِينٍ} [ياس: 12] {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} هذه الجملة مسببة عن كفرهم، وتكذيبهم بالآيات.قال الرّازي: هذه الفاء للجزاء، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدّم شرحه من قبائح أفعالهم؛ ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها، وكلما خبت النار زادهم الله سعيراً.وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: {عَنِ النبإ العظيم} قال: القرآن: وهذا مرويّ عن جماعة من التابعين.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} قال: مضيئاً {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} قال: السحاب {مَاء ثَجَّاجاً} قال: منصباً.وأخرج عبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً {ثَجَّاجاً} قال: منصباً.وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً} قال: يبعث الله الريح، فتحمل الماء، فيمرّ به السحاب، فتدرّ كما تدرّ اللقحة، والثجاج ينزل من السماء أمثال العزالي فتصرّفه الرياح فينزل متفرّقاً.وأخرج ابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال: في قراءة ابن عباس {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات بالرياح}.وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وجنات أَلْفَافاً} قال: ملتفة.وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: يقول: التفّ بعضها ببعض.وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} قال: سراب الشمس الآل.وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} قال: سنين.وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال: سأل على بن أبي طالب هلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله؟ قال: نجده ثمانين سنة كل سنة منها اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة.وأخرج سعيد بن منصور، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: الحقب الواحد ثمانون سنة.وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال: «الحقب ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة مما تعدّون».وأخرج عبد بن حميد عنه قال: الحقب ثمانون عاماً اليوم منها كسدس الدنيا.وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.قال السيوطي: بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} قال: «الحقب ألف شهر، والشهر ثلاثون يوماً، والسنة اثنا عشر شهراً ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف سنة» وأخرج البزار، وابن مردويه، والديلمي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً، والحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم ألف سنة مما تعدّون» قال ابن عمر: فلا يتكلنّ أحد أنه يخرج من النار.وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عبد الله ابن عمرو قال: الحقب الواحد ثمانون سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله.وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحقب أربعون سنة». وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله: {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} وقوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: 108] إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة.وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب لأن الله يقول: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً}.وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً} قال: «قد انتهى حرّه {وَغَسَّاقاً} قد انتهى حرّه، وإن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه، حتى يبقى عظاماً تقعقع» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {جَزَاء وفاقا} قال: وافق أعمالهم.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال: ما أنزلت على أهل النار آية قط أشدّ منها {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} فهم في مزيد من عذاب الله أبداً. اهـ.
|